أثر أحمد بن إدريس الفاسي على السودان وجواره الجغرافي (1/2)

أهداني الأخ البروفسور حسن مكى رسالة من نحو أربعين صفحة كان قد كتبها بعنوان ” السيد أحمد بن إدريس الفاسي” .والرسالة رغم صغرها تعد رسالة هامة ألقت الضؤ على أكثر الرجال أثرا في تأريخ السودان الديني والسياسي رغم أنه لم يزره ولم يقم فيه . وكنت أثناء دراسة أكاديمية لي عن دور الإسلام السياسي في صيرورة السودان قد وقفت على شيء من آثار الرجل في سفر الدكتور على صالح كرار القيم ” الطرق الصوفية في السودان” الذى استند على رسالته للدكتوراه من جامعة بيرقن بالسويد والتي ركزت بتفصيل على تأريخ الصوفية في منطقة الشايقية تحديدا. آمل أن يكون الكتاب قد ترجم الى العربية لفائدته التاريخية عن مراحل تطور الصوفية في السودان عموما وفى تلك المنطقة بوجه خاص. ولما أحس بروفسور اهتمامي بمعرفة المزيد عن السيد أحمد بن إدريس الفاسي أعارني كتاب الباحث الدنماركي الدكتور آر. اس. أوفاهى Enigmatic Saint: Ahmed Ibn Idris and the Idrisi Tradition والذي يمكن ترجمته إلى: القديس الغامض أحمد بن إدريس والإدريسية أو ربما الإرث الإدريسي أدق وأشمل من الإدريسية كون أن أثر الرجل لم يقتصر على الطرق التي تسمت باسمه ولكن أثره أمتد علي نطاق واسع تلمسه في تقارب الطرق الصوفية في العقائد الأمر الذي يفسر ظاهرة التعايش السلس بين الطوائف والجماعات الدينية في السودان. ولعل الكتاب هو رسالة الرجل لنيل الدكتوراه وهو بهذه المناسبة هو الذي كتب مقدمة كتاب الدكتور على صالح كرار المذكور آنفاً كما أنه كان المشرف على رسالته لنيل الدكتوراه. وقد اتفق أوفاهى مع بروفسور حسن مكي على قلة المكتوب من المراجع عن السيد أحمد بن إدريس مشيرا بينها إلى رسالة بروفسور حسن مكي عن الرجل والواردة في صدر هذه المقالة. وأشار إلى أهم ما جاء فيها من آن منهج ابن إدريس قد جمع بين علوم الدين المستندة على النصوص الشرعية كما حددتها أوامر الدين ونواهيه وبين التصوف وهو ما لخصه تلميذ ابن إدريس، السنوسي بالقول: طريق أستاذنا جامع بين الإشراقية والبرهانية. فقد أشار أوفاهى في تقديمه لكتاب الدكتور على صالح كرار إلى ما يمكن صياغته بما يأتي: لئن كان غزو محمد على باشا للسودان عام 1821يعتبر بداية لتأريخ السودان الحديث , حيث أدخلت التركية السابقة كما اصطلح السودانيون على تسميتها ما قامت به في مصر رغم ما اعتور ذلك من نواقص , زراعة المحاصيل النقدية وفرض ضرائب على الأموال وفتح بعض المدارس وادخال التلغراف ( أضاف على كرار إليها البواخر النيلية ) وتأسيس نظام إداري متكامل للبلاد على نهج شبيه بالمستعمرات الأوربية فإن توجيه السيد أحمد بن إدريس الفاسي تلميذه الحجازي السيد محمد عثمان الميرغني القيام برحلة دعوية للسودان عام 1815 (من قرية زينية فى صعيد مصر) ( وفي روايات أخري أن رحلة محمد عثمان الميرغني كانت عام ١٨١٧) وأنه حل بواحة بارا شمال كردفان حيث تزوج أم السيد الحسن) ومجيء الأخير للسودان هو وغيره (من تلاميذ الفاسي) قد أحدث تغيرات جوهرية في الحياة الروحية والولاءات بالنسبة للسودانيين . ويقول أوفاهى إن ذينك العاملين قد أديا عبر التراكم إلى اندلاع الثورة المهدية عام 1881. ونقول وهكذا استنادا إلى ذلك التحليل بدأ تأريخ الولاءات الدينية والسياسية المستندة إلى الدين فى التشكل وخلق الحياة السياسية والثقافية في سودان اليوم. ولا نبرح حتى نشير هنا إلى أن مظاهر الحداثة المشار إليها آنفاً: وسائل نقل حديثة ووسائط اتصال أسرع (تلغراف) وإدارة موحدة للبلاد ساهمت فى نقل التصوف من مرحلة تصوف لا مركزي يقوم على التفاف الناس حول أولياء يعتقدون في صلاحهم في مناطق جغرافية محدودة دون أن يؤسس أولتك الأولياء طرقا منظمة كمثال على ذلك القادرية والشاذلية في البداية إلى قيام طرق صوفية مركزية ذات فروع على امتداد السودان الشمالي مثل الختمية والسمانية والتجانية والمهدية الجديدة.
وأقدم الطرق الصوفية قدوما إلى السودان هي الطريقة الشاذلية جاء بها الشريف حامد أبو دنانة عام ١٤٤٥ لمنطقة سقادي غرب المحمية (كرار ص ٣٦) تلتها القادرية منتصف القرن السادس عشر الميلادي علي يد تاج الدين البيهاري. (كرار ص٢٠).
وكتاب أوفاهي المشار إليه مكون من سبع فصول في ١٦٩ صفحة عدا المرفقات والرسومات البيانية التي اتسعت بها الصفحات إلي مئتين وستين صفحة. استهلها بتعريف بمنهج ابن إدريس في المعرفة استنادا إلي ما اصطلح عليه في الدوائر الأكاديمية بالصوفية الجديدة أو Neo-Sufism ويقصد بها حركة الإصلاح في الصوفية التي تأثرت بالمنهج السلفي الذي جاءت به حركة محمد بن عبدالوهاب في القرن الثامن عشر في الجزيرة العربية والذي شكل تحديا لحركة التصوف التي كانت تعتمد علي النهج الكلاسيكي في التصوف الذي حل محل حركة الزهاد الأولي التي كانت ملتزمة بالنصوص الدينية المعروفة في الكتاب والسنة بعد تأثر الثقافة الإسلامية بالفلسفات الوافدة من فارس والهند وغيرها التي انبنت فيها المعرفة علي تواصل الصوفي المباشر مع الذات الإلهية دون واسطة كمنهج محي الدين بن عربي إلي منهج الحضرة النبوية حيث يتلقى العارف من الرسول (ص) مباشرة أو بواسطة الخضر أو في حضوره. وقد ابتدر الفصل الأول في الكتاب بالتعريف بالصوفية الجديدة وصلة ابن إدريس بها. منوها ومتبنيا لتعريف البروفسور فضل الرحمن (كان أستاذا بجامعة شيكاقو) بأنها الميل إلى إصلاح الصوفية استجابة لضغوط الإسلام (الأرثوذكسي: أي الإسلام الذي تقوم عليه مدارس أهل السنة الأربعة القائم على القرآن والسنة والإشارة واضحة في مواضع أخري إلي حركة محمد بن عبد الوهاب) إلي درجة كما يقول فضل الرحمن الي أنها نزعت من الصوفية بالكلية الطابع الميتافزيقي واستبدلته بمضمون يطابق ما عليه الإسلام. (أي اللا صوفي). ويضيف أوفاهي النقل عن بروفسور فضل الرحمن في توضيح رؤية ابن إدريس بأن ابن إدريس كان معارضا ورافضا لفكرة تواصل العبد أو اتحاد روحه بالروح الإلهية وأن أقصي ما يمكن أن يبلغه الصوفي هو اتصال واتحاد روحه بروح النبي محمد. ويتفق ترمينقهام ومارتن وفضل الرحمن بأن الصوفية الجديدة ذات صلة بحركة إحياء الحديث وبروز ما يمكن تسميته ب “طريق محمد” في مواجهة تأليه الأولياء وما اتصل بها من انحرافات وعلاقتها بصوفية وفلسفة محي الدين بن عربي. ويرون أن هذا التقدم ربما كان بتأثير حركة محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية.
سنلاحظ لاحقا أن الطرق الصوفية السودانية سواء تلك التي نهلت مباشرة من الإدريسي كالختمية والرشيدية (الأحمدية) وربما الشاذلية وفروعها كالمجدوبية وتلك التي تأثرت بطرق أخري كالسمانية وكالتيجانية التي كان الشيخ أحمد التجاني معاصرا فيها لأحمد بن إدريس في فاس وآنهما انتسبا في مرحلة حياتهما الأولي للشاذلية هناك والمهدية قد وقفت عند حد الاتحاد أو قل الصلة بروح الرسول محمد في المنام أولا وفي اليقظة لاحقا، كانت الحضرة النبوية مصدرا للمعرفة كما تدل علي ذلك أورادهم. وللأستاذ محمود محمد طه رسالة هامة في تبيان الحصول علي المعرفة بعنوان “طريق محمد” إلا أنها رأت في إتباع طريق محمد وسيلة مؤقته وليس نهاية الأرب كما رأي أولئك في الصوفية الجديدة بل هي وسيلة تفضي المواظبة عليها إلي الوصول إلي الذات الإلهية كما حدث للرسول عندما تجاوز مقامه مقام الملك جبريل عند سدرة المنتهي وصولا إلي الله بلا واسطة أو تقليد كأنما أعاد الأستاذ محمود بذلك الحياة لمنهج ابن عربي الذي رفضته الصوفية الجديدة ومع ذلك فتجد اسم محي الدين بن عربي يتردد في أوراد الصوفية الجديدة وفي المدائح النبوية بصورة لافتة لا تجد فيها تحفظا أو رفضاً لصوفية وفلسفة الرجل.

(يتصل الحديث إن شاء الله)

تعليقات الفيسبوك